الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة بيت الرواية: مسارات مشروع جادّ... بقلم حاتم التليلي

نشر في  27 جوان 2018  (10:23)

بقلم حاتم التليلي

ليس ثمّة ما يدعو إلى الشكّ في أنّ الأدب الروائي الذي يعجز عن كتابة سرديّة مّا، أو الإدلاء بموقف إزاء العالم ورؤية له لا يمكن التعويل عليه، ولكن ماذا لو تنزّل هذا الأمر ضمن سياقات اجتماعية وسياسية وثقافيّة أقلّ ما يمكن وصفها به هو أنّها مصنع لتخصيب القحط الأنطولوجي إذ تسيّره كلّ النزعات اللاانسانيّة المحفوفة بصدام الهمجيات والأصوليات قديمها وجديدها؟

ماذا يمكن للروائي أن يكتب حين تسود ثقافة السوق والدعاية الرخيصة لكلّ ما هو مبتذل إذ ليس ثمّة غير الخردة الإبداعية القائمة على نزعة تشغيل الكيتش كذوق للفنّ الهابط؟

وما المنجز الكتابي الذي يمكن تنشيطه في اطار محاورته قضاياه وقضايا عصره المعذّب؟ وهل صار يتوجّب حماية الرّوائي نفسه بوصفه طريدة غضّة اللحم من أجلها يفتح كلب الجحيم أشداقه؟

لقد أصبح راهننا تحت سيطرة الرجعيين الذين ما فتئوا اشعال نار التطرّف والتقدّم القهقرى بمجتمعاتهم، وهم كثر على ما يبدو، فمنهم الظلاميون والمتكلون باسم الإله، ومنهم الحداثيون من سياسيين وحتى المثقفين: هؤلاء جميعا يوحّدهم فشل ذريع في اختراع المستقبل، وعلى الأرجح، لقد تحوّلوا إلى ما يشبه العناكب التي تحرس نسيج المعادلة القائمة، إذ لا ثمّة طريقة أو امكانية للخلاص منه أبدا.

ستبدو محنة الأدب الرّوائي مضاعفة بهذا الشكل، إذ بقدر ما تأتي الحاجة إلى تقويض مقولة النهايات التي باتت تهدّد هذا الجنس، تأتي الحاجة أيضا إلى كتابة هذا الحاضر/الراهن، وإلى ضرورة تحرير المستقبل، وإلى ضرورة محاكاة هلع الواقع اليوميّ سخريّة وتهكّما، ابداعا وتجديدا، أمّا عن كيفيّات ذلك، فربّما كان من الضروريّ التأسيس لمشروع مغاير يتكّلم باسم الرّواية والرّوائيين، على أن تتكّلم الرّواية فيما بعد باسم عصرها وعصر القرّاء كضرب من اختراق هذه الأزمنة التّي تسودها بيارق الغيب. وعلى الأرجح: لقد ولدت فكرة إحداث "بيت للرواية" من هذا السياق.

على الرّغم من الإعلان عن تأسيس بيت الرّواية بشكل رسميّ في أوّل شهر ماي 2018 بمدينة الثقافة، إلا أنّ ارهاصات نشأته تعود إلى حقبة زمنيّة أبعد من ذلك بكثير، ما جعله يشهد مسارات مختلفة تهدف في مجملها إلى تخطّي المكابح والفخاخ وسياسات التهميش التي لحقت مشروعه ودفعت إلى عدم تحقّقه أوّل الأمر.

تعدّدت محاولات صاحب فكرة بيت الرواية ومديره الحاليّ الروائي كمال الرياحي، ليمرّ المشروع على مكتب أكثر من وزير للشؤون الثقافيّة خلال الحكومات المتعاقبة التي مرّت على البلاد، إذ قوبل بالاستحسان من قبل بعضهم والتهميش من قبل آخرين، على أن يجد تحقّقه في نهاية المطاف تزامنا مع إطلاق مشروع مدينة الثقافة، حيث تمّ اطلاق أوّل بيت للرواية في الوطن العربي ليطلق بدوره ملتقى تونس للرواية العربية تحت شعار الرواية والتغيير وذلك أيام 3 و4 و5 ماي 2018.

من لبنان والعراق، ومنهما إلى مصر وفرنسا واليمن والجزائر وليبيا والنمسا والسودان والكويت والمغرب وتونس، كانت هجرة الروائيّات والروائيين العرب إلى مدينة الثقافة بالعاصمة التونسية أين يكون مقّر "بيت الرواية"، وأين تبدأ فعاليات الملتقى الأوّل للرواية العربية حيث امتدّ على طيلة ثلاثة أيام، كما عالج نقدا وتفكيكا ثلاثة محاور أساسية تعالج قضايا الرواية الراهنة، وهي التالية:

- قيمة الرواية ومدى قدرتها على التغيير.

- الرواية العربية في مواجهة التحوّلات والأزمات السياسيّة.

- الرواية لم تمت لكنّها في خطر؟

أثّث المحورالأوّل في جلسته الأولى كلّ من رشيد الضعيف والحبيب السالمي وابراهيم عبد المجيد ومسعودة أبو بكّر، أما الجلسة الثانية فقد أفصحت عن مشاركة كلّ من انعام كجه جي وأبو بكر العيادي وأمين الزاوي ومحمد علي اليوسفي.

بالنسبة إلى المحور الثّاني فقد أثّثه كلّ من واسيني الأعرج وآمال مختار وعبد العزيز بركة ساكن وكمال الزغباني في جلسته الأولى بينما شارك في الجلسة الثانية كلّ من حسن بن عثمان وهدى بركات وآمنة الرميلي ومحمد الجابلي وحسونة المصباحي، أمّا فيما يتعلّق بالمحور الثالث فقد أفصح عن مشاركة محمود عبد الغني وأحمد مجدي همام ومحمود طرشونة والحبيب السايح في جلسته الأولى وعلي المقري وخيرية بوبطان وسعود السنعوسي وشفيق الطارقي في جلسته الثانية.

ومثلما أدار كمال الشيحاوي جلستي المحور الأوّل فقد كانت جلسات المحور الثاني والثالث من قبل جمال الجلاصي ومحمد الحباشة. في مقابل الجلسات ومحاور البحث والنقاش، كانت من بين الاهتمامات المركزية والأساسية لهذا الملتقى تسليط الضوء على تجربة رسول الصحراء: الروائي الليبي ابراهيم الكوني، وذلك من خلال حضوره كضيف شرف وتخصيص مساحة شاسعة من الوقت تحت عنوان "لقاء مع الروائي ابراهيم الكوني حول تجربته الروائية: لقاء مفتوح مع الجمهور".

لم يتمّ تشغيل هذا الملتقى من عدم ومحض بفعل كان فكان، أو لغاية لا غاية لها، أو هكذا بطريقة عشوائية، ولكنّه جاء بغاية الإجابة عن أسئلة حارقة وجب طرحها والتباحث فيها جماعيا عسى أن تكون ثمّة اجابة تنير ظلماتها  خرائط العوالم الروائية، ولقد وردت في الورقة التقديمية نماذج مختلفة عنها يمكن أن نقتطع منها ما يلي "إذا كانت الرواية قد نجت مرّات من الموت فإنّ ذلك يعني أنها تواجه أخطارا دائمة.

لذلك سيحاول هذا الملتقى الأول لبيت الرواية أن يناقش هذه القوّة والقدرة التي امتلكتها الرواية من خلال طرح هذه الأسئلة: هل غيّرت الرواية العربية المجتمعات العربية وطريقة تفكيرها؟ وهل ساهمت الرواية العربية في تشكيل الوعي العربيّ؟ لماذا تخشى السلطة الرواية والروائيين ولماذا تصادرها وتمنعها وتنفيهم وتعتقلهم وتكفرهم إذا كانت المجتمعات فعلا لا تقرأ وتتأثر؟ كيف واجهت الرواية العربية اللحظات السياسية العربية الراهنة كالحروب والانتفاضات والهزائم في ظل أنظمة شمولية؟ ما الذي يهدد الرواية العربية اليوم ويجعلها في خطر؟ هل هو انحسار المؤسسة النقدية أم طغيان السلطة أم أن ما يهدّدها هو الرواية نفسها بظهور رواية مضادّة لقيمها؟"

ربّ أسئلة كانت محور اهتمام الرّوائيات والروائيين الذين حضروا الملتقى، فسلطوا اهتمامهم عليها من زوايا متعددة ومختلفة، ليكون ثمة فيما بعد اشتباكهم المعرفي مع بعضهم البعض ومع جمهور الملتقى الذي كان حضوره مقابل كثافته متنوّعا ومتعدّد المشارب والمعارف من نقّاد وجامعيين وباحثين وكتاب.

تلك هي أوّل بذرة تمّت فلاحتها في تربة الكتابة الروائية، تلتها فيما بعد جملة من الأنشطة ستظّل دائمة سلّطت اهتماماتها بشكل مكثّف على التجربة الروائية التونسية من خلال استضافة روائيين تونسيين وفتح حلقات نقاش معهم.

مقابل ذلك، ورغم طفولة هذا البيت إذ لم يتمّ تأسيسه إلا من فترة قصيرة جدّا، بات فضاءه مزدانا بمكتبة روائيّة ومدونة نقدية مهمّة، ليعلن هذه الأيّام عن مسابقة روايات الصيف التي ستتمّ فعالياتها 11 و12 جويلية، أمّا فيما يتعلّق بالمشاريع المستقبليّة فأمر ستكشفه الأيّام القادمة، وذلك من خلال  الأنشطة والورشات والنوادي التي سيتمّ تثبيتها قريبا لتأت كنوع من تشغيل خلايا كتابيّة من شأنها مستقبليّا إحداث منعطف في مسارات الكتابة الروائية في تونس، إضافة إلى تلك النزعة التي ترمي إلى انفتاح هذا الجنس على أجناس كتابيّة وفنّية مغايرة كالمسرح والسينما والموسيقى والفنّ التشكيلي.